مسلسل الانهيار العربي الشامل
بقلم يوسف آيوب حداد
يبدو من المسلمات من قراءة مجريات الأحداث والوقائع المتلاحقة ان ((النظام العالمي الجديد))الذي أعلنه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب عقب انهيار المعسكر الاشتراكي السوفييتي قد شق طريقه فعلياً في العالم العربي أكثر منه في كافة أرجاء أقطار آسية وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وتتضح هذه الحقيقة في عدة مظاهر بادية للعيان … ومن أبرز تلك المظاهر – عدا دمج الكيان الصهيوني في محيطه العربي، وإضفاء شرعية عربية رسمية على وجوده وحقه الباطل شرعاً في وجوده هذا – تمتع هذا الكيان بتفوق عسكري وسياسي على العرب كل العرب وحمل أنظمتهم لا على التطبيع معه فحسب بل على الإنحناء الذليل للغطرسة الشارونية وعدم الإلتفات المادي والمعنوي لنصرة الشعب الفلسطيني في كفاحه المشروع للإحتلال والقهر والتدمير ناهيك بعدم المبالاة بتدنيس الصهاينة حرمة المسجد الأقصى المبارك والحرم الخليلي الإبراهيمي. ومن المخزي والمخجل ان نجد نشطاء إنسانيين من مختلف الأعراق والأجناس بمن فيهم جماعات يهودية يتصدون بأجسادهم للممارسات الشارونية الهمجية، ويحاولون عرقلة إقامة جدار الفصل العنصري الشاروني، وأن لا نجد بينهم عربياً واحداً من الأقطار العربية (الشقيقة) وأن لا نجد عرشاً من عروش تلك الأقطار يبدي شجباً واستنكاراً فيما الواجب القومي والديني والإنساني يفرض على تلك العروش قطع علاقاتها على مختلف الأصعدة مع الكيان الصهيوني العنصري المتمادي في الإذلال ودوس الكرامات.. والظاهر أن تلك العروش ألفت الإذلال والهوان، وغاب عن ضمائرها أي أثر للعزة والكرامة والرجولة، ولم يعد عندها وسيلة سوى الاستجداء من سيد النظام العالمي الجديد كي يحفظ لها ماء الوجه رغم إدراكها إنحيازه المطلق للكيان الصهيوني. ومن مهازلها على كثرتها اغتباطها على تحفظات واشنطن على تهديد شارون الأخير بفك الارتباط مع الجانب الفلسطيني واتخاذ قرار آحادي، وسرعان ما صفعها تراجع واشنطن عن تحفظها واستمرارها في اعتبار شارون ((رجل سلام)) لموافقته على خارطة الطريق رغم تسجيله عليها أربعة عشر تحفظاً مما يعني شارونية الخريطة، زد على ذلك الإصرار على إكمال جدار الفصل العنصري وقضم نصف أراضي الضفة الغربية، وأخيراً وليس أخراً شرعنة بوش إحتفاظ إسرائيل بالمستوطنات التي صرح بها خلال زيارة شارون للبيت الأبيض الشهر الماضي.
ومن استباحة اسرائيل لكل المحرمات في فلسطين، وانتهاكها البشع لشرائع السماء والأرض وسط تخاذل عربي رسمي وشعبي لا حد ولا نهاية له، وتنامي وتوطيد العلاقات بين تل أبيب وعدد من العواصم العربية إلى استباحة غزو دول ((التحالف)) للقطر العراقي بإحتلال غير شرعي، وتنصيب سلطة عراقية فرضها التحالف الذي انتزع من مجلس الأمن بالقرار 1483 شرعية الاحتلال علماً بأن ذلك المجلس لم يوافق عليه قبل حصوله. واشترط هذا القرار مراعاة اتفاقية لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الملحقة بها لعام 1977. وقد اثبتت الوقائع ومجريات الأحداث المتكررة عدم الالتزام بهذه الاتفاقيات دون مساءلة. وفي حين ان مجمل الأنظمة العربية لم يعد يعنيها من بعيد أو قريب ما يحدث في القطر ((الشقيق)) نجد التغلغل الاسرائيلي من خلال شبكة الموساد ورجال المال والأعمال يجري على قدم وساق. كل ذلك إن دلّ على شيء فعلى حالة الإنحدار المستمرة في دنيا العرب والعروبة والمتمثلة في عدم المبالاةبمستقبل العراق ومصيره بعدما علت أصوات ممثلي الأكراد في مجلس السلطة العراقية الانتقالية مطالبة بفدرالية كردية تشمل محافظة كركوك النفطية مما يعني بلقنة العراق وتفتيت وحدته.
وفي مسلسل الإنحدار العربي الرسمي جاء قرار الكونغرس الأميركي الذي وقعه الرئيس جورج دبليو بوش بمساءلة سوريا ومحاسبتها وسط صمت المقابر في العواصم العربية ما بين المحيط والخليج. والمسائلة هذه في حقيقتها لا يراد منها سوى دخول دمشق طواعية في بيت الطاعة أسوة ببقية العواصم العربية. ومن اللافت للنظر ان حليفة دمشق سابقاً طهران قد تنكرت لها بدخولها بيت الطاعة بعد توقيعها ملحقات البروتوكولات المتعلقة بحظر انتشار أسلحة الدمارالشامل واكتفت بعدم التعليق على مساءلة دمشق ومحاسبتها.
ومؤخراً تجلت أقبح مظاهر الإنحدار العربي دخول قائد الجماهيرية الليبية العظمى العقيد معمر القذافي بيت الطاعة طواعية وبتبرير مضحك بأن دخوله هذا كان بقرار حر ذاتي. ومن الأهمية بمكانة قبل تبيان هذا الإنحدار أن نشير إلى بعض المواقف القذافية المستغربة والمستهجنة. ومن بينها طرده للفلسطينيين العاملين في الأراضي الليبية ومكوث هؤلاء سنوات في الصحراء على الحدود الليبية – المصرية في حالة من المجاعة أنقذتهم منها المؤسسات الدولية بينما ان هذا الطرد تم بدون أي مبرر على الإطلاق.. وفي مسلسل مواقفه المتقلبة والمحيرة قراره الإنسحاب من الجامعة العربية وتأسيس جامعة دول أفريقية، وهو الذي طالما تغنى بالوحدة العربية وبالقومية العربية. وضمن هذا المسلسل إنكاره لضلوع نظامه في حادثة طائرة لوكربي الأميركية وطائرة اوتا الفرنسية ثم الإقرار بذلك ودفع بليوني وسبعمائة ألف دولار لذوي ضحايا لوكربي ومساومة فرنسا لدفع تعويضات مماثلة. ومن حقنا ومن حق الشعب الليبي خاصة والعربي عامة أن نسأل: أوليس من الحماقة المنكرة استهداف الطائرتين وإنكار ذلك ثم الاعتراف بالجريمة، وهل أموال التعويضات هي من أمواله أم أنها من أموال الشعب الليبي وهي بالطبع كذلك فبأي حق يحق له أن يتصرف بتلك الأموال؟!.
إن هذه المساومات غيض من فيض من التخبط العشوائي المستغرب والمدهش حقاً إلا انه مع ذلك يهون إزاء الفضيحة الإنحدارية الأخيرة التي ستتبعها بالتأكيد فضائح لاحقة في طرابلس الغرب وفي سواها من العواصم العربية. والفضيحة القذافية التي أميط اللثام عنها هي في قيام بعثة استخباراتية أميركية وبريطانية على مدى الثلاثة الأشهر الأخيرة من العام الحالي بتفقد وفحص منشآت أسلحة الدمار الشامل الليبية، وأعقب هذا التفقد الإعلان الرسمي الليبي عن التخلي الكلي عن تلك الأسلحة وعن البرامج المتعلقة بها ((طوعاً وبقرار حر مستقل)) وبصدور هذاالإعلان تم على الفور امتداح كل من واشنطن ولندن للخطوة الليبية الإيجابية التي ستؤهل القطر الليبي إلى الالتحاق بالمجتمع الدولي وتسقط عنه الرعاية للإرهاب أو أنه من الدول المارقة الشريرة.
أنه لمن المؤكد أن إقدام العقيد القذافي على هذه الخطوة إنما جاء بعد إحتلال العراق والإطاحة بنظامه واعتقال رئيس هذا النظام.. وتخوّف العقيد من أن يحدث له ما حدث لصدام كان الدافع على تقديم التعويضات، وعلى التخلص من أسلحة الدمار الشامل والبرامج المتعلقة بها، أوليس في خطوته هذه الحفاظ على ديمومة بقائه على عرشه أسوة بأقرانه من الحكام العرب، أوليس حفاظ كل حاكم عربي على عرشه أهم من الكرامة والقومية والمصير العربي المتجه إلى هاوية بلا قعر. وماذا يمنع الحكام العرب من الاستمرار في هذا النهج ما دامت شعوبهم مغرقة في خمولها وسكونها العدمي، وما دامت عاجزة عن محاسبة هؤلاء الحكام الذين يتباهى بعضهم بالقواعد الأجنبية المقامة على أراضي أقطارهم، وما دامت علاقاتهم في تنام مطرد بالكيان الصهيوني رغم التمادي الصهيوني بالغطرسة والإذلال.
ويبقى السؤال الملح اللجوج لماذا عزوف الأنظمة العربية عن إمتلاك أسلحة الدمار الشامل والتوقيع إلى أجل غير مسمى على معاهدة حظر انتشار تلك الأسلحة فيما الترسانات الاسرائيلية مليئة بها، ولماذا لا تشترط الأنظمة بوضوح إلى ان عدم انتاجها لتلك الأسلحة مرتبط بتخلص اسرائيل من ترساناتها وقيامها بالتوقيع على معاهدة انتشار أسلحة الدمار كما فعلت الأنظمة العربية، وكما فعل النظام الإيراني.
إنه لمن نافل القول ومن المؤكد أن إمتلاك اسرائيل وحدها بين بقية دول الشرق الأوسط لأسلحة الدمار الشامل هو تهديد فعلي لكافة دول هذه المنطقة، كما انه من المؤكد انها متفوقة عسكرياً بالأسلحة التقليدية على العالم العربي بأجمعه، وهذا يعني ان الإدعاء الاسرائيلي بالخطر المحدق بالمجتمع الصهيوني هو ادعاء ساقط، وأن الأمن العربي هو المهدد فعلاً لا الأمن الاسرائيلي. وهذه الحقيقة تدركها جيداً كافة الأنظمة العربية ولكنها تتجاهلها ولا تبالي بها لأن المبالاة مقصورة في دوام التربع على العروش ففي هذا التوجه السائد، وفي ظل استكانة الشارع العربي ما يوحيبالمضي في الإنحدار إلى الهاوية.
وفي مسار الانحدار الاستجدائي العربي الرسمي كان سفر رئيس المخابرات المصرية عمر سليمان إلى واشنطن، وسفر وزير الخارجية المصري إلى القدس ومقابلته لشارون ووزير خارجيته سيلفان شالوم في إلتماسين من واشنطن وتل أبيب لبدء مفاوضات اسرائيلية- فلسطينية. ومنالملفت للنظر ان الوزير أحمد ماهر لم يشر في المؤتمر الصحفي المشترك مع شالوم من بعيد أو قريب إلى مسألة جدار الفصل العنصري المصر شارون على إكماله، وفي حين جرى تحميل شالوم للجانب الفلسطيني مسؤولية انهيار الهدنة خلافاً للحقيقة ولم يجرؤ ماهر على دحض هذه التهمة بتحميل اسرائيل المسؤولية، كما انه لم يقم في إبان زيارته لشارون بزيارة ياسر عرفات لئلا يزعج شارون.
لم تعد هذه المهازل تطاق وإلى متى ستستمر مسيرة الانحدار المخزي وقد بلغ السيل الزبى؟. أولم يصبح مؤكداً بعد التجارب المتكررة المرة ان استجداء واشنطن للضغط على تل أبيب وسيلة عقيمة وغير مجدية، وأن استجداء شارون لتليين مواقفه المتصلبة وعزوفه عن عمليات البطش وإقامة الجدار، وقضم الأراضي انما هو ضرب من المحال. فإلى متى الاستمرار بالاستجداء والغباء والاستغباء. وإذا كانت الأنظمة العربية المتخاذلة بإفراط لا تحترم نفسها على الإطلاق فهل يؤمل من الأصدقاء قبل الأعداء احترام تلك الأنظمة التي أوصلت العرب إلى حالة من الانهيار الشامل غير المسبوق في التاريخ، وآخر الأدلة على مظاهر الانهيار المطالبة القذافية لسوريا لا لإسرائيل بالتخلي عن أسلحة الدمار لديها.