العداء الأميركي للرمز
كتب منح الصلح – السفير
عاش ميشال عفلق الفصل الأخير الطويل من حياته محجوباً بضباب كثيف من الالتباسات الناشئة عن كونه مع صلاح البيطار مؤسس حزب البعث العربي في دمشق في الثلاثينيات من القرن الماضي، والمختلف في الوقت نفسه مع حزبيين حاكمين باسم البعث في كل من دمشق وبغداد. والاختلاف بينه وبين البعث الحاكم في سوريا معروف، لم ينكره عفلق ولا السوريون، وعلى أساسه كان تركه سوريا إلى لبنان يعيش فيه متخفياً مدة ثم يغادره إلى منفى ذاتي آخر هو البرازيل، ما لبث أن عاد منه إلى بغداد بوصول بعثيين إلى السلطة ودعوتهم إياه للرجوع. ولم تنقطع العلاقة بعد ذلك تماماً بين عفلق والبعث في العراق. ولكن كل الدلائل بقيت تدل على أن الخلاف كان موجوداً بما يكفي ليكمل القائد المؤسس عيشه في منفى ذاتي في باريس، التي كان قد تخرّج منها شاباً متخصصاً في التاريخ، درس مادته في ما بعد كأستاذ في تجهيز دمشق.
إحدى محطات هذا الخلاف كانت موقف عفلق من الحرب العراقية على إيران، التي عبّر بكل الوسائل عن اعتراضه عليها. والخلافات الأخرى التي كانت موجودة بين عفلق والحكم في العراق انصبّت بالدرجة الأولى على التصفيات الحزبية الداخلية وعلى العنف السياسي والشخصي معاً.
كان عفلق شخصية فكرية وأدبية بارزة منذ الثلاثينيات، قبل أن يلمع سياسياً مؤمناً منذ البدء بفعل الكلمة الصريحة الملتزمة. وله قصة بعنوان <<موت سندباد>> تروي أن سندباد بعد أن قضى شطراً طويلاً من عمره في السفر عاد إلى بغداد وانتحى زاوية ثابتة في السوق يقص فيها ما رأى في ترحاله وما سمع من عجائب وغرائب، الناس متكوكبة من حوله لا تنفك حتى زوال النهار، وهو يتحدث ولا يملّ والناس مشدودة إلى ما تسمع، وفجأة يسكت سندباد منقلباً على ظهره فتقول الجماعة: <<لعله مات من كثرة ما روى من عجائب>> فيقول حكيم من القوم بعد تفحص في الجثة: <<بل مات ممّا سكت عنه لا ممّا أفصح من عجائب الزمان، فالسكوت وحده المميت>>.
والواقع أن عفلق لم يهتم بتبرئة نفسه أو حزبه من الأخطاء سواء أثناء الوحدة السورية المصرية التي كان من أوائل دعاتها أم أثناء الخلاف العراقي الإيراني في مرحلة متأخرة، بقدر ما كان دائماً حريصاً على أن يكون منسجماً مع المبادئ التي يلتزمها والأفكار التي يعتقد أنها تسير بالأمة إلى الأمام. ولم يكن يخيفه طول الطريق بقدر ما يهمه أن تكون الطريق هي ذاتها الموصلة للأمة إلى أهدافها. ولم تكن الوحدة والحرية والاشتراكية في نظره زينة تزين بها قلة صدورها، وإنما تحديات نبيلة تنتقل بها الأمة من عصر التلقي للظلم إلى عصر الإبداع القومي والإنساني.
إن الولايات المتحدة تحاول أن تقول إنها لم تأت للعراق لمحاربة عقائد أو أفكار بل جاءت لإنهاء حكم فردي غير ديموقراطي هو حكم صدام حسين. وكان الكثيرون يصدقونها، غير أن إقدامها على جرف قبر ميشال عفلق، الذي تعرف جيداً أنه قضى القسم الطويل من عمره في أوروبا وأميركا الجنوبية، في عملية إصرار منه على القول إن مبادئ الحزب الذي أراد ويريد ليست هي الحاكمة، هو فضيحة كبرى لادعاءاتها. فعملية الجرف لقبر عفلق لن تنزل في التاريخ إلا على أنها عداء لفكرة الوحدة العربية والتقدم يذهب في التطرف إلى حد ارتكاب جريمة نكراء على طريقة طغاة التاريخ الأشد بشاعة ضد رفات إنسان أعطى عمره كاملاً لقضية بلاده والعرب ولم يهادن في سبيلها لا صدام حسين ولا غيره، ومن المؤكد أن هذه الرمزية المتمثلة في حياة عفلق حتى موته من حيث ارتباط اسمه بقومية أمته وبعثها كانت هي المستهدفة من قبل الأميركيين بعملية الجرف الإجرامي الذي تناولت به قبره.